من مقدمة الدكتور حامد حفني داود
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدك اللهم ونستعينك ونستهديك في القول والعمل فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ونصلي ونسلم على سيد أنبيائك ورسلك محمد بن عبدالله منقذ الأنسانية من دياجير الظلام والضلال الى معارج النور والأيمان.
وبعد فهذا سفر عظيم كتبه علمان من أعلام الأسلام في صورة حوار علمي أصيل اتصف بالنزاهة والموضوعية والبعد عن سفساف القول وهجره، واتصف بالأخلاص الجم من الوصول الى الحقيقة مبرأة من كل غرض سواها، والحقيقة هي الحكمة الخالدة والحكمة والعلم قرنان يطلبهما المؤمن أنى وجدهما.
كان هذا الحوار يجري بين عالمين جليلين يمثلان شطري أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم السنة والشيعة. وكان لكل منهما خطره ومكانته في مذهبه علماً وخلقاً وأدباً وبكل ما تتضمنه هذه الكلمات من معنى.
الأول منهما العالم الجليل الشيخ سليم البشري شيخ الأسلام وعمدة المحدثين في مصر.
والثاني السيد الشريف صاحب السماحة العلامة الكبير السيد عبدالحسين شرف الدين شيخ علماء الشيعة وإمام الحفاظ والمحدثين في لبنان.
الأمر الذي جعل لهذا الحوار خطره وأثره في هذا العصر الذي جرى فيه وفي عصرنا الذي نعيشه وفي الأجيال التي تأتي بعد ذلك.
ومن عادة المتناظرين أن يصر كل منهما على الأنتصار على خصمه وأن يدحض حججه بحجج أقوى منها حتى لا يترك له مجالا من الأنتصار والغلبة، ولكننا رأينا في هذين المتناظرين شيئاً جديداً لا نكاد نألفه إلا في المنهج الأسلامي في فن المناظرة والجدل، ذلك المنهج هو إصرار كل من الباحثين على الوصول إلى الحقيقة أنى وجدها فلم يكن أحدهما يبغي من المناظرة الكيد لصاحبه أو النيل من علمه أو حتى مجرد الفوق عليه بقدر ما يطمع من الوصول الى الحقيقة ولو
الصفحة د
كانت متمثلة في حجة صاحبه.
الأمر الذي حدا بهما إلى حوار علمي منظم يهدي إلى الحق وياخذ بأيديهما وأيدي القراء الى المنهج الأسلامي السليم وهو ما سنبسطه للقارئ في صدر هذه العجالة.
ومن عادة المتناظرين ـ أيضاً ـ أن يهدفا إلى الأسلوب العلمي وحده ليصلا إلى الحقيقة من أقرب طريق، ولكن صاحبينا الجليلين مزجا بين الأسلوبين العلمي والأدبي، فكان حوارهما دائرة معارف واسعة يستلهم منها القارئ حقائق المذهبين السني والشيعي كما يستلهم منهما أفضل ما عرف من الأساليب الأدبية في مستهل القرن ـ الرابع عشر ـ وذلك ما جعل من هذا الكتاب حقلاً واسعاً وروضة فيحاء يجد فيها القراء كل ما يروقهم من ثمار للعلم وفوائد الأدب ويجعل من الكتاب ركنا ركينا في مكتبتنا الأسلامية ومكتبتنا العربية.
وقد استغرق هذا الحوار القيم مائة واثنتي عشرة حلقة جرت بين هذين العالمين الجليلين وكان ذلك في اوائل القرن الرابع عشر الهجري في المدة ما بين «ذي القعدة 1329 هـ، وجمادي الأولى 1333 هـ».
وقيمة هذا الكتاب تتجلى أكثر ما تتجلى في الظروف التي ظهر فيها حين خرج الى النور يقرأه السني والشيعي، ذلك أن هذا الكتاب خرج به مؤلفه في اوائل القرن الرابع عشر خلال العقدين الثالث والرابع، في فترة عصيبة كان فيها المستعمر يعبث بمقدرات الأمة العربية ولم يجد طريقا الى تحقيق رغباته الدنيئة إلا ببث الفرقة بين المسلمين واستغلاله هذه الخلافات المذهبية من أجل تحطيم صرح العروبة والأسلام. وقد بلغ التصدع مبلغه في اوائل هذا القرن. وقد كانت له جذور عميقة منذ العصر الأموي حين افترق المسلمون في اواسط القرن الاول الى معسكرين، المعسكر الأول بقيادة يزيد بن معاوية، والمعسكر الثاني بقيادة أبي عبدالله الحسين عليه السلام، وقد استفحل الخلاف بين المعسكرين حين استشهد الحسين عليه السلام في موقعة كربلاء، وظل الخلاف بين المعسكرين طوال العصرين الاموي والعباسي يدور حول الحياة السياسية ونظام الحكم ولا يكاد يمس العقيدة الا في القليل. ولم يكن من رجال الفريقين من يجرؤ على تكفير صاحبه إلا نادراً.
فلما انقضى العصر العباسي بغلبة المغول على دار الخلافة استحالت هذه الخلافات السياسية الى خلافات مذهبية تمس الفروع وتتناول قضايا الفقه الأسلامي المستمد من القرآن والسنة، وعلى الرغم من أن التشريع الأسلامي
الصفحة ذ
يعتمد على هذين المصدرين الرئيسيين إلا أن ذلك لم يكن كافيا للقضاء على هذه الخلافات، لأن كل فريق كان يعتمد مروياته ولا يعتمد بما يرويه الفريق الآخر.
فالشيعة لا يعتمدون إلا على ما يروى عن أئمتهم من آل البيت، ولا يحفلون بمرويات غيرهم إلا نادراً ـ اعتماداً على أن آل النبي هم أعرف بكلام جدهم من غيرهم على حد تعبيرهم «أصحاب الدار أدرى بما فيه» ـ والسنة يرون أن رواية الحديث فنّ له رجاله المتخصصون في علوم الحديث، وعلم الجرح والتعديل، وان الأئمة ممن يوثق فيهم ويتبرك الناس بآثارهم ويتآسون بأخلاقهم. إلا أن رواية الحديث لها رجالها المتخصصون فلا تقصر عليهم دون غيرهم وإن كان هذا الاعتراض أجاب عنه الامامية بأن لديهم ما لدى أهل السنة من الرجال المتخصصين في علوم الحديث وعلم الجرح والتعديل ناهيك بأن في الكتب الستة عند أهل السنة كثير جدا من الرواة المعتمدين عند الشيعة كالسدي، والجعفي، والنخعي، وشعبة بن الحجاج وطاووس بن كيسان، وعبدالرازاق المحدث وعلي بن المنذر شيخ الترمذي والنسائي وغيرهم ممن نص عليهم الأمام شرف الدين في كتابه.
وقد كان للخلافات السياسية التي منيت بها الأمة العربية والأسلامية في الداخل وعبث المستعمر وألاعيبه في الخارج أثر وأي أثر في بث الفرقة والعداوة مما حمل كل فريق على تكفير الفريق الأخر. وظل هذا البلاء ينخر في صفوف المسلمين ردحاً طويلاً في اوائل هذا القرن.
وقد لعب التصوف ـ في هذه الفترة من تاريخ الأسلام ـ دورا خطيرا حدث ذلك حين بلغ التصوف غاية لا تسامقها غاية من حيث التطور السلوكي، وتعدد الطرق الصوفية التي بلغت فوق المائة.
ولعل هذا التطور المفاجيء الذي بلغه التصوف في اوائل هذا القرن يرجع إلى ما مني به المسلمون من فقد للسلطان المادي فلجأوا الى السلطان الروحي يهرعون اليه يستعيضون به عما فقدوه في هذه الفترة العصبية التي كان فيها التصوف يوم ذاك أشبه بالواحة التي يستروح فيها المسافر من عنت السفر ومشاق الطريق، فأقبل عليه الكثير يلتمسون فيه المتنفس الروحي حين فقدوا السلطان المادي.
أقول: لولا التصوف وطرقه العديدة في هذه الفترة، لكانت أسباب الفرقة بين السنة والشيعة أعمق واشد مما كانت، ولكن المتصوفة بفضل ما استلهموه من آداب الأسلام، وأخلاق النبي الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم وما عرفوا به من تواضع ونبذ
الصفحة ر
للعصبيات، وعزوف عن وضر الدنيا وزخارفها كانوا أشبه بصمام الأمن بين شقي أمة محمد عليه السلام، حين كانوا ـ بحكم طبيعة سلوكهم ـ دعاة للتآخي والتراحم، عاملين بالكتاب والسنة.
ولكن الاتجاه للصوفي وحده لا يكفي لعلاج أسباب الفرقة وقتل الخلافات المذهبية. لأنه يعتمد أكثر ما يعتمد على الأساليب في علاج المشاكل التي أشعلها المستعمر ونفخ في أوراها بين الفريقين.
ومن ثم كان لابد لهذا الموثق من وثبة اصلاحية. ونهضة علمية تعالج اسباب الخلافا علاجا جذرياً.
عند ذلك ينبري هذا العلمان من بين المعسكرين السني والشيعي في فترة من أحلك الفترات التي حدثناك عنها. وقد جاءا في عصر كان الفكر الاسلامي فيه أحوج ما يكون الى من يرأب هذا الصدع ويصلح هذا الخلل الذي تدخلت فيه كل هذه العوالم السالفة لهدم الوحدة الاسلامية. وكأن عناية الله سبحانه لهذه الأمة التي يقول عنها سيد الأنبياء: لم تعط أمة من اليقين ما أعطيت أمتي، أن يقيض هذين العاملين ليتربعها على عرش الفكر الأسلامي في مطلع هذا في وقت أحوج ما يكون فيه الأسلام لمن يدير أموره ويوحد صفوفه، ومن ثم كان هذا الكتاب الجليل لبنة متينة في التقريب بين شطري المسلمين، وازالة أسباب الخلافات المذهبية بينهما.
لقد تعرض الكتاب لعدة موضوعات لا يزال الشيعة يعتبرونها اصلا اصيلا في صلب مذهبهم في مقدمتها النص على الخلافة لعلي، وعصمة الأئمة من آل الزهراء وعلي عليهما سلام الله وبركاته، وما يراه اخوانهم أهل السنة من أن حتمية النص ليست ملزمة إلا في العبادات والا كان ذلك داعياً إلى تفسيق بعض الصحابة وهذا أمر جلل نهى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحذر منه غاية التحذير وقد قال قالته المشهورة في نظام الحكم:
«أطيعوهم ما أقاموا الصلاة فيكم» كذلك ما يراه أهل السنة من ان العصمة اصطلاح لا يجوز اطلاقه إلا على السادة الأنبياء عليهم السلام.
كما تعرض الكتاب لأمور كثيرة التقى عندها الطرفان. منها مصادر التشريع من أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد أثبت العلامة السيد شرف الدين ان كوكبة المحدثين عند الشيعة وأسانيدهم مما هو موجود بنصه في مصادر الحديث عند السنة. وذلك وحده من اعظم الأسباب الداعية الى القضاء على العصبيات الفقهية، والخلافات بين الفريقين، ولا نكاد نجد بعد ذلك إلا خلافات فقهية
الصفحة ز
تقع في دائرة الفروع ولا تتجاوز المسائل الفرعية في الفقه كالمسح على الرجلين في الوضوء، ورد المصلي السلام على من يلقيه عليه بلفظه، مما له شاهد من السنة السمحاء، ولوقع هذه المسائل الفقهية بين الشيعة والسنة أشبه ـ في نظر المنهج العلمي الحديث ـ بالخلافات الفرعية بين المذاهب الأربعة عند السنة.
ونحن ـ اليوم ـ ندعو أن تكون نظرة أهل السنة الى «الشيعة الأمامية» نظرة فقهية بحتة بعيدة عن العصبيات، وان ينظر الى الخلافات الفقهية بيننا وبينهم نظرنا الى الخلافات بين الأحناف والمالكية، والشافعية والحنابلة، وبذلك تضيق شقة الخلاف بين «الشيعة والسنة» وتزول هذه العصبيات البغيضة الى الأبد وعند ذلك نكون قد وفينا ما امر الله به في كتابه الكريم من توحيد الصف الأسلامي (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) وقوله: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) وقوله: (ان الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء) .
وبهذا وحده نقضي على الذنوب القلبية كالحسد، والحقد، والنفاق، ولا سيما إشاعة الفرقة ـ ذات البين ـ بين صفوف المسلمين وهذه من اعظم النواهي التي نهى عنها النبي، وخوف الأمة منها ووصفها بالحالقة، التي لا تبقى ولا تذر.
… ان هذه النفحة المدوية التي أحدثها هذا الكتاب الجليل، وهو يصرخ في أذان كل سني وشيعي ان: تقاربوا وتآلفوا بآداب النبي عليه السلام واعملوا بما أمر به الله ونبيه من تراحم وتوادد وتآزر وتعاطف، كان لها أثرها.
وليس أدل على أثر هذا الكتاب في جيلنا السالف وجيلنا المعاصر، من ظهور جماعة من قادة الفكر في مصر والعراق وايران وغيرها من البلاد الأسلامية دعوا الى التقريب بين المذاهب في مصر وايران وقد حملت هذه الجمعية مشعل الدعوة وظهرت لها مجلات ونشرات دورية أعادت الى الأذهان سيرة السلف الصالح وصدقت قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخبر به من أحاديث المغيبات «امتي أمة مباركة لا يدري أولها خير أو آخرها»(1) .
وقوله: «ما أعطيت أمة من اليقين ما أعطيت أمتي».
وقوله: «ليدركن الرجال قوماً مثلكم او خيرا منكم. ولن يخزي الله أمة أنا أوّلها وعيسى بن مريم آخرها».
رواه جبير بن نضير وأخرجه الحاكم في مستدركه.
____________
(1) الجامع الصغير: 1/109.
الصفحة س
وبعد فإني لا أنسى في ختام هذه العجالة أن أذكر بالتقدير أخي في الله السيد مرتضى الرضوي على ما بذله من جهد طيب في نشر هذا الكتاب الجليل، واخراجه في صورة محققة للقارئ المسلم في مشارق الأرض ومغاربها. والكتاب خير هدية تهدى الى كل مسلم منصف يدعوى الى التقريب ونبذ الخلاف.
الأمر الذي دعونا اليه ـ احتسابا بالله وحده ـ منذ ربع قرن، وهو ما يحملنا على أن نغبط أخانا الناشر في نشر هذا الكتاب وأمثاله، هدانا الله وإياه الى ما يحبه ويرضاه وطهر ألسنتا عن زيف القول وهجره وجعل أعمالنا وأقوالنا خالصة لوجهه تعالى.
كتبه في ليلة النصف من شعبان الموافق 1 من أغسطس سنة 1976م ـ القاهرة.
دكتور حامد حفني داود
واضع أسس المنهج العلمي الحديث
ورئيس قسم اللغة العربية ـ كلية الألسن
جامعة عين شمس ـ القاهرة
الصفحة ش