الأنبياء (صلوات الله عليهم) معصومون من النسيان كما دلت على ذلك الأدلة العقلية والنقلية التي سبقت منا الإشارة إليها في دروس الكلام وفي أجوبتنا السابقة، والنسيان المنسوب في القرآن الحكيم إلى الأنبياء (صلوات الله عليهم) معناه الترك الذي هو أحد معاني النسيان لغة، وبهذا وردت الأخبار عن أئمتنا من آل محمد صلوات الله عليهم، ومنها ما رواه العياشي (عليه الرحمة) عن بعض أصحابنا عن أحدهما - أي الباقر أو الصادق - صلوات الله عليهما: ”سألته كيف أخذ الله آدم بالنسيان؟ فقال: إنه لم ينسَ وكيف ينسى وهو يذكّره ويقول له إبليس: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ“. (تفسير العياشي ج2 ص10).
وما رواه الكليني (عليه الرحمة) عن حمران عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في حديث: ”وهو قوله عز وجل: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسيَ وَلَمْ نجِدْ لَهُ عَزْماً، إنما هو: فترك“. (الكافي ج2 ص
.
وما رواه الصدوق (عليه الرحمة) عن محمد بن عمارة عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) في حديث: ”قال موسى: لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ، أي بما تركت من أمرك“. (علل الشرائع ج1 ص60).
وكما أجاز المخالفون لأنفسهم تأويل قوله تعالى: ”فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ“ إلى معنى أنه تعالى يتركهم في النار ويعاملهم معاملة المنسيين وذلك لثبوت استحالة نسيان الله تعالى الثابت في آيات أُخَر؛ كذلك أجزنا نحن تأويل قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: ”لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ“ إلى معنى أنه (عليه السلام) قد ترك أمر الخضر (عليه السلام) ولم يكن نسيانا حقيقيا، وذلك اعتمادا على تفاسير أئمتنا صلوات الله عليهم، ولثبوت استحالة نسيان الأنبياء عقلا لأن ذلك يستوجب التنفير والشك في ما يأتون به من أحكام، ولوجود قرائن في الكتاب المجيد على استخدام لفظة النسيان بمعنى الترك في آيات أُخَر، ومنها ما حكاه الله تعالى عن موسى وفتاه (عليهما السلام) وذلك قوله: ”فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا“ فإذا حملنا الآية على معنى النسيان الحقيقي لما صحّ أن تنسِب الآيتان اللتان تليانها أمر النسيان للفتى وحده دون موسى، فقد قال سبحانه: ”فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا. قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا“. (الكهف: 62 - 64).
فهاهنا إذا قيل بأن موسى هو الناسي بدواً لما صحّ أن يطلب موسى من فتاه الحوت ثم يصرّح الفتى أنه وحده قد نسيه، إذ الفرض أن موسى كان ناسيا فالمفروض أن يتذكر فحسب في ذلك الموقف فيستدرك لا أن يطالب فتاه بالحوت للغداء ثم يقرّ الفتى بأنه هو الذي نسي لا سواه.
وبهذا يرجح أن يكون معنى النسيان هنا هو الترك، أي أن موسى قد ترك الحوت عند الصخرة، ثم تركه الفتى أيضا، فيكونان مشتركيْن في الترك، ثم لما مضيا طلب موسى من فتاه الحوت ليرى إن كان قد تركه أيضا أم أخذه معه، فقال الفتى: إني قد تركته عند الصخرة كما تركته يا موسى، ولم يدفعني إلى ترك ذكر تركي للحوت هناك إلا الشيطان فإنه لا ينبغي أن يطلع على ما بيننا من سرٍّ، وهو الرجوع إلى الصخرة للقاء الخضر عليه السلام.
وهذا هو المستفاد من قوله: ”أَنْ أَذْكُرَهُ“ فيكون معنى النسيان الثاني الذي ذكره الفتى هو ترك ذكر الأمر الذي هو ترك الحوت عند الصخرة.
وهو المستفاد من قول موسى بعد ذلك: ”ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا“ فإن موسى (عليه السلام) يصرّح أن هذا الترك للحوت هو ما كنّا نحن الإثنان نريده ونبغيه أصلا حتى نرجع إلى طريق الصخرة فنلاقي الخضر (عليه السلام) هناك حسب ما أمر الله تعالى.
والفتى هو يوشع بن نون وصي موسى (عليهما السلام) وبالذي فسّرناه لك تعرف أن الشيطان لم يتدخل في إنسائه أو دفعه إلى ترك الحوت أي السمكة، وإنما كان سبب عدم ذكر أمر الحوت في الطريق منع الشيطان من استراق السمع مثلا فيطلع على السرّ.
والمحصّلة أنه حيث ثبت أن معنى النسيان الوارد في هذه الآيات هو الترك؛ يكون ذلك قرينة على أن القرآن استخدم هذا المعنى في آيات أخرى أيضا ذكر فيها لفظ النسيان، ومنها قول موسى للخضر: ”لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ“ فيكون معناه: لا تؤاخذني بتركي موافقتك وتعمّدي معارضتك في أفعالك لينكشف للناس وجه الحكمة فيها. وتنبّه أن كل هذا الذي جرى بين موسى ويوشع، وموسى والخضر (عليهم السلام) إنما كان دورة تعليمية لنا، وإلا فهم عالمون بما يصنعون أصلا ويتعمّدون إظهاره في الواقع على هذا النحو لتتم دورة التأهيل الإلهي للبشر.
وهذا جوابنا التفصيلي المعمّق، خذه إلى مخالفينا علّ العقلاء منهم يهتدون، على أننا نكاد نجزم أن معظمهم - لضحالة فكرهم - لن يتمكنوا من فهمه!
رزقنا الله وإياكم اتباع الثقلين وشفاعتهما في الداريْن. والسلام. ليلة الرابع والعشرين من صفر الأحزان لسنة 1429 من الهجرة النبوية الشريفة.