دور أبي ذر رحمه الله في الفتوحات
ودور أبي ذر رحمه الله في الفتوحات واحدٌ مما طمسه تاريخ الخلافة الرسمي! فقد صوروا أبا ذر رحمه الله كأنه بدوي ساذج متزمت سئ الخلق ، وكأنه صغير الجثة ضعيف البنية عن الجهاد ! بينما نطقت ثنايا مصادرهم بالحقائق ، وأنه كان رجلاً جسيماً طويلاً ، وقائداً شجاعاً ذكياً ! (وكان أبو ذر طويلاً عظيماً رضي الله عنه وكان زاهداً متقللاً من الدنيا...وكان قوالاً بالحق).(تهذيب الأسماء للنووي:2/513).
(وكان أبو ذر طويلاً عظيماً) . (أسد الغابة:5/188 ، ومستدرك الحاكم:3/51) .
(رجلاً طويلاً آدم أبيض الرأس واللحية). (الطبقات:4/230) .
(فجلس... فرجف به السرير ، وكان عظيماً طويلاً) (سير أعلام النبلاء للذهبي:2/69).
وكان له فرس أصيل يقال له: الأجدل . (أنساب الخيل لابن الكلبي ص 6، وأسماء خيل العرب وفرسانها لابن الأعرابي ص 2). ومضافاً الى الرواية المتقدمة في استنكاره على الأمير الأموي لغصبه الجارية التي تدل على أنه كان في فتح الشام(سير أعلام النبلاء:1/329 ، وتاريخ دمشق:65/250) ،
فقد قالت رواية الواقدي في فتوح الشام:2/254: (ثم حمل من بعده العباس بن مرداس ، ثم من بعده أبو ذر الغفاري ، ثم تبارد المسلمون بالحملة ، فلما رأى الروم ذلك ايقظوا أنفسهم في عددهم وعديدهم وتظاهروا البيض والدرع ، ولم يزل القتال بينهم حتى توسطت الشمس في قبة الفلك).
وقال الواقدي أيضاً:2/583: (ثم استدعى من بعده أبا ذر الغفاري ، وأمَّره على خمسمائة فارس ، وسلمه الراية فتوجه وهو يقول:
سأمضي للعداة بلا اكتئاب وقلبي للِّقا والحرب صابي
وإن صال الجميع بيوم حرب لكان الكلُّ عندي كالكلاب
أذلهمُ بأبيض جوهريٍّ طليقِ الحدِّ فيهم غيرُ آبي) .انتهى .
بل تدل عدة روايات كما يأتي على أن أبا ذر رحمه الله سكن الشام من أول حكم عمر ، للمشاركة في الفتوحات ، وعاد منها في زمن عثمان ، ثم نفاه اليها عثمان لمدة سنة ، ثم أعاده ونفاه الى الربذة فبقي فيها سنتين أو أكثر حتى توفي غريباً سنة32 هجرية . وهذا يعني أنه قضى نحو عشرين سنة في الشام .
أما دور أبي ذر في فتح مصر فقد روت أكثر مصادر الحديث أنه كان يمرِّغ فرسه ويروِّضه ، فسألوه عن حبه له فقال: (ليس من ليلة إلا والفرس يدعو فيها ربه فيقول: رب إنك سخرتني لابن آدم وجعلت رزقي في يده ، اللهم فاجعلني أحب إليه من أهله وولده ، فمنها المستجاب ومنها غير المستجاب ، ولا أرى فرسي هذا إلا مستجاباً). رواه أحمد:5/162، و170، والنسائي:6/223، وفي الكبرى:3/36 ، والبيهقي في سننه:6/330 ، وعلل أحمد بن حنبل:3/404 ، وعلل الدارقطني:6/266 ، وسنن سعيد بن منصور:2/204، والعظمة لأبي الشيخ:5/1780، وحلية الأولياء:8 /387 ، والفردوس بمأثور الخطاب:4/53 ، وتفسير ابن كثير:2/334 ، والفروسية لابن قيم الجوزية ص130، وكنز العمال:6/321 ...الخ. روته هذه المصادر وغيرها ولم تذكر مناسبته مع أنه حديث نبوي ! إلا ثلاثة منها كشفت ربما عن غير قصد دور أبي ذر في فتح مصر !
قال السيوطي في الدر المنثور:3/197: (وأخرج أبو عبيدة في كتاب الخيل عن معاوية بن خديج ، أنه لما افتتحت مصر كان لكل قوم مراغة يمرِّغون فيها خيولهم ، فمر معاوية(يقصد ابن حديج التميمي)بأبي ذر رضي الله عنه وهو يمرغ فرساً له فسلم عليه ووقف ، ثم قال: يا أبا ذر ما هذا الفرس؟ قال فرس لي ، لا أراه الا مستجاباً ! قال: وهل تدعو الخيل وتجاب ؟ قال: نعم ، ليس من ليلة إلا والفرس يدعو فيها ربه فيقول: رب إنك سخرتني لابن آدم وجعلت رزقي في يده ، اللهم فاجعلني أحب إليه من أهله وولده ، فمنها المستجاب ومنها غير المستجاب ، ولا أرى فرسي هذا إلا مستجاباً). (وحياة الحيوان للدميري ص930). وفي نهاية الإرب: ص2036: (لما نزل المسلمون مصر كانت لهم مراغة للخيل ، فمر حديج بن صومي بأبي ذر رضي الله عنه وهو يمرغ فرسه الأجدل ، فقال...)
وأما دوره في فتح قبرص ، فقال البلاذري في فتوح البلدان:1/182: (لما غُزيَت قبرس الغزوة الأولى ، ركبت أم حرام بنت ملحان مع زوجها عبادة بن الصامت ، فلما انتهوا إلى قبرس خرجت من المركب وقدمت إليها دابة لتركبها فعثرت بها فقتلتها ، فقبرها بقبرس يدعى قبر المرأة الصالحة .
قالوا: وغزا مع معاوية أبو أيوب خالد بن زيد بن كليب الأنصاري ، وأبو الدرداء ، وأبو ذر الغفاري ، وعبادة بن الصامت ، وفضالة بن عبيد الأنصاري ، وعمير بن سعد بن عبيد الأنصاري ، وواثلة بن الأسقع الكناني ، وعبد الله بن بشر المازني ، وشداد بن أوس بن ثابت ، وهو ابن أخي حسان بن ثابت ، والمقداد ، وكعب الحبر بن ماتع ، وجبير بن نفير الحضرمي). انتهى .
أقول: حشروا إسم كعب الأحبار معهم ، لإعطائه لقب المسلم المجاهد ! وكذلك حشروا إسم معاوية بعبارة مبهمة فيها تدليس(وغزا مع معاوية) ، مع أن تاريخ كعب ومعاوية لم يسجل أنهما حملا سلاحاً وحاربا يوماً ، أو غزيا حتى لمرة واحدة ! ولذا قال في الإستيعاب:4/1931: (ويقال إن معاوية غزا تلك الغزاة بنفسه ، ومعه أيضاً امرأته فاختة بنت قرظة ). انتهى .
ويشير النص التالي الى أن معاوية كان ينتظر الجيش في الساحل بطرسوس!
ففي مسند الشاميين للطبراني:2/73 ، عن جبير بن نفير قال: (أخرج معاوية غنائم قبرس إلى الطرسوس من ساحل حمص ، ثم جعلها هناك في كنيسة يقال لها كنيسة معاوية ، ثم قام في الناس فقال: إني قاسم غنائمكم على ثلاثة أسهم: سهم لكم ، وسهم للسفن ، وسهم للقبط ، فإنه لم يكن لكم قوة على غزو البحر إلا بالسفن والقبط . فقام أبو ذر فقال: بايعت رسول الله على أن لا تأخذني في الله لومة لائم: أتقسم يا معاوية للسفن سهماً وإنما هي فيؤنا ، وتقسم للقبط سهماً وإنما هم أجراؤنا ، فقسمها معاوية على قول أبي ذر) . (ونحوه في:2/120 ، وتاريخ دمشق:66/193 ، وحلية الأولياء:5/134) .
أما البخاري فروى الحديث بدون ذكر أبي ذر ، ولا أبي أيوب ، ولا غيرهما من الصحابة ! لأن غرضه فقط أن يمدح معاوية بأنه أول من ركب البحر للغزو ، ويروي حديثاً يحتمل أن يكون مدحاً لمعاوية !
قال بخاري في:3/203: (أم حرام بنت ملحان قالت نام النبي(ص)يوماً قريباً مني ثم استيقظ يتبسم ، فقلت ما أضحكك ؟ قال أناس من أمتي عرضوا على يركبون هذا البحر الأخضر كالملوك على الأسرة ! قالت: فادع الله أن يجعلني منهم ، فدعا لها ، ثم نام الثانية ففعل مثلها ، فقالت مثل قولها فأجابها مثلها ، فقالت ادع الله أن يجعلني منهم فقال أنت من الأولين ! فخرجت مع زوجها عبادة بن الصامت غازياً أول ما ركب المسلمون البحر مع معاوية ، فلما انصرفوا من غزوهم قافلين فنزلوا الشام ، فقربت إليها دابة لتركبها ، فصرعتها فماتت) . انتهى. وقد صحح ابن حجر وغيره خطأ البخاري في روايته ولم يذكروا معاوية ! قال في تهذيب التهذيب:12/411: (والصحيح العكس ، فقد قال غير واحد وثبت غير واحد أنها خرجت مع زوجها عبادة في بعض غزوات البحر ، وماتت في غزاتها وَقَصَتْها بغلتها عندما نقلوا ، وذلك أول ما ركب المسلمون في البحر في زمن معاوية في خلافة عثمان . زاد أبو نعيم الأصبهاني وقبرت بقبرس . قلت: والإسماعيلي في مستخرجه عن الحسن بن سفيان عن هشام بن عمار قال: رأيت قبرها ووقفت عليها بقبرس). (ونحوه في صحيح ابن حبان:10/468 ، وطبقات ابن سعد:8/435 ، ورجال صحيح البخاري للكلاباذي:2/851 ، وتاريخ دمشق:70/217، وغيرها . وفي تهذيب التهذيب:12/82: ركبتْ البحر عام قبرس ، مع ثلاثة عشر رجلاً من الصحابة ، منهم أبو ذر ).
أقول: يصعب تصديق حديث بنت ملحان وأمثاله ، الذي يذكر أن النبي صلى الله عليه وآله كان يزورها كأنها والدته أو خالته ، وينام في بيتها ويرى رؤية تتعلق بها !
وأنها كانت تفلي رأسه كابنها أو أخيها ، وكأن رأس النبي صلى الله عليه وآله فيه قمل كرؤوس رجالهم !